الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط
.بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي فِي الْكَفَالَةِ: ثُمَّ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِذَلِكَ فِي الذِّمَّةِ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ حِينَ أَمَرَ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ هَهُنَا كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ كَانَ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ مِمَّا يَلْزَمُهُ بِهِ، فَإِنْ كَفَلَ بِالْبَصْرَةِ وَجَاءَ بِالْكِتَابِ مِنْ قَاضِي الْبَصْرَةِ إلَى قَاضِي الْكُوفَةِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يُوَافِيَهُ حَتَّى يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ فِيهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِمُوَافَاةِ الْآمِرِ مَعَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ كَفَلَ بِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ بِالْبَصْرَةِ فَأَخَذَ الطَّالِبُ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُ بِالْبَصْرَةِ حَتَّى يُبْرِئَهُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْكُوفَةِ وَأَخَذَهُ الطَّالِبُ بِالْبَصْرَةِ فَطَلَبَ كِتَابَ قَاضِي الْبَصْرَةِ إلَى قَاضِي الْكُوفَةِ بِذَلِكَ لِيَأْمُرَهُ بِأَنْ يُوَافِيَ مَعَهُ الْبَصْرَةَ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَتَبَ لَهُ يُجْبِرُ قَاضِي الْكُوفَةِ الْمَكْفُولَ بِهِ عَلَى الذَّهَابِ مَعَهُ إلَى الْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ بِالْبَصْرَةِ لَا تُلْزِمُ الْكَفِيلَ شَيْئًا فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ. وَلَوْ طَلَب الْكَفِيلُ كِتَابَ قَاضِي الْبَصْرَةِ بِبَيِّنَةٍ بِالْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ حَتَّى إذَا قَدِمَ الْكُوفَةَ وَطَالَبَ الطَّالِبُ بِالتَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ الْأَصِيلُ وَجَحَدَ الْآمِرُ بِالْكَفَالَةِ كَانَ كِتَابُ قَاضِي الْبَصْرَةِ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كِتَابًا فِي كَفَالَةٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي كَفَالَتِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَمْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ بِذَلِكَ. بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَإِذَا كَانَ الْكُفَلَاءُ بِالْمَالِ ثَلَاثَةً، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّى الْمَالَ أَحَدُهُمْ وَالْكَفِيلَانِ الْآخَرَانِ فِي بَلَدَيْنِ وَصَاحِبُ الْأَصْلِ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ بِثَلَاثَةِ كُتُبٍ إلَى كُلِّ بَلَدٍ بِصِفَةِ الْكَفَالَةِ وَحَالِهَا وَأَدَاءِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ أَخْذَ الثَّلَاثَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتُبُ إلَى كُلِّ قَاضٍ بِمَا كَتَبَ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ فِيهِ لِلْخُصُومِ لِكَيْ لَا يَلْتَبِسَ الْمُدَّعِي وَيَأْخُذَ مَالًا عَلَى حِدَةِ كُلِّ كِتَابٍ عَنْ كُلِّ خَصْمٍ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَ فِي كِتَابَةِ الشُّهُودِ آبَاءَهُمْ وَقَبَائِلهمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكتاب لِنَقْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الشَّاهِدِ فِيهِ، وَإِعْلَامُهُ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَقَبِيلَتِهِ فَإِنْ أَخَذَ أَحَدُ الْكُفَلَاءِ؛ فَقَالَ: قَدْ أَخَذْت مِنْ الْكَفِيلِ مَعِي نِصْفَ الْمَالِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ الْمَالَ؛ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ الْكَفِيلُ وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلرُّجُوعِ لَهُ بِنِصْفِ الْمَالِ عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ يَدَّعِي مَانِعًا أَوْ مُسْقِطًا فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الَّذِي ادَّعَى الْمَالَ وَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَهُ، وَإِذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ وَأَخَذَ بِهِ كِتَابَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهُ هُنَاكَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ يَكْتُبُ لَهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ بِمَا أَتَاهُ مِنْ قَاضِي كَذَا؛ لِأَنَّ عَلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ وَيَقْبِضَهُ عَلَى مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى حَقِّهِ كَمَا هُوَ عَلَى الْكِتَابِ وَلِأَنَّ شُهُودَهُ قَدْ ثَبَتَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِالْكِتَابِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِأَدَائِهِمْ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إلَى قَاضِي الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا خَصْمُهُ وَإِنْ رَجَعَ الْقَاضِي الَّذِي كَتَبَ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: اُكْتُبْ لِي كِتَابًا آخَرَ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ خَصْمِي فِي الْبَلَدِ الَّذِي كُتِبَ إلَى قَاضِيهِ؛ لَمْ يَكْتُبْ لَهُ حَتَّى يَرُدَّ إلَيْهِ كِتَابَهُ الْأَوَّلَ نَظَرًا مِنْهُ لِخَصْمِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقْصِدَ الْمُدَّعِي التَّلْبِيسَ لِيَأْخُذَ مَالًا بِكُلِّ كِتَابٍ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَتَبَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ كِتَابَهُ فَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِ النَّظَرِ لِأَيِّ الْخَصْمَيْنِ وَمَيْلِهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَتَمْكِينِهِ مِنْ التَّلْبِيسِ وَلْيُبَيِّنْ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قَدْ كَتَبَ لَهُ فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ إلَى قَاضِي كَذَا وَكَذَا فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ بَعْضُ التَّلْبِيسِ وَيَحْصُلُ لِلْقَاضِي الْكَاتِبِ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّمْكِينِ مِنْ الظُّلْمِ. وَإِذَا كَتَبَ لِلْقَاضِي بِمَالٍ أَدَّاهُ كَفِيلٌ عَنْ كَفِيلٍ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ، وَالتَّخْلِيصُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْقَعَهُ بِأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ فِي الْوَرْطَةِ فَإِنْ كَانَ الْأَصِيلُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ الثَّانِيَ أَنْ يُضَمِّنَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ، وَأَصْلُ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَكْفُلَ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَ بِهِ عَنْ كَفِيلِهِ وَإِذَا ادَّعَى الْكَفِيلُ الْمَال وَكَتَبَ لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَكْتُب فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ الَّذِي أَتَاهُ الْكِتَابُ لَا يَرُدُّ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَتِهِ عَنْهُ وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ جَاءَ الْكَفِيلُ بِكِتَابٍ مِنْ قَاضٍ آخَرَ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ وَيُؤْخَذُ لَهُ بِالْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. .بَابُ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فِي الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ: وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْقَضَاءُ هُنَاكَ كَانَ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ وَقَدْ قَامَتْ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ جَمِيعًا. وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ وَلَوْ ادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّهُ وَافَى بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مَانِعًا أَوْ مُسْقِطًا بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَيَسْتَوِي إنْ شَهِدَا عَلَى الْمُوَافَاةِ أَوْ عَلَى إقْرَارِ الطَّالِبِ بِذَلِكَ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ إقْرَارِهِ أَوْ وَقْتِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ يُكَرَّرُ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ غَدْوَةً بِمَحْضَرٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ عَشِيَّةً بِمَحْضَرٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا وَقَالَ: دَفَعْته إلَيْهِ غَدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمَوْجُودَ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ غَيْرَ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ آخَرَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْكَفِيلُ أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ الرَّجُلَ إلَيْهِ وَأَنَّ الْمَالَ قَدْ لَزِمَهُ، وَالشُّهُودَ شَهِدُوا بِبَاطِلٍ وَقَدْ اتَّفَقَتْ شَهَادَتُهُمَا فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِإِكْذَابِهِ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا شَهِدَا بِهِ لَهُ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ إذَا أَدَّاهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ حُجَّةُ بَرَاءَتِهِ، وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ مُعَايَنَةً وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ وَالْكَفِيلُ يَجْحَدُ ذَلِكَ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ قَوْلٌ وَصِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِيهِ وَاحِدَةٌ، وَفِي مِثْلِهِ اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ لَا يَضُرُّ كَالْبَيْعِ وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ فُلَانٍ وَاخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: كَفَلَ بِهَا، وَقَالَ الْآخَرُ: ضَمِنَهَا، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: هِيَ لِي، وَقَالَ الْآخَرُ: هِيَ عَلَيَّ؛ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ لِاتِّفَاقِهِمَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْكَفَالَةُ، وَالْأَلْفَاظُ قَوَالِبُ الْمَعَانِي فَعِنْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْعَقْدِ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَضُرُّهُمَا اخْتِلَافُ الْعِبَارَةِ كَمَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالنِّحْلَةِ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: احْتَالَ بِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: ضَمِنَهَا لَهُ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَرَاءَةَ وَادَّعَى الطَّالِبُ الضَّمَانَ أَوْ الْحَوَالَةَ وَالْبَرَاءَةَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْحَوَالَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعِبَارَةِ أَوْ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْتِزَامِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِلْمَالِ كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَرَاءَةَ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْحَوَالَةِ ضَمَانًا وَزِيَادَةً فَيُقْضَى بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَالْأَصِيلُ بَرِيءٌ بِإِقْرَارِ الطَّالِبِ لَا بِشَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ بِالْحَوَالَةِ. وَلَوْ ادَّعَى الطَّالِبُ الضَّمَانَ بِغَيْرِ بَرَاءَةٍ وَقَالَ: لَمْ أُحِلْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْمَالِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى مِقْدَارِ الِالْتِزَامِ بِالضَّمَانِ، وَالطَّالِبُ مَا أَكْذَبَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِالْحَوَالَةِ فِي شَهَادَتِهِ لَهُ وَإِنَّمَا أَكْذَبَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَا لَهُ بِالْمَالِ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ أَوْ أَنَّهُ أَبْرَأَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ قَالَ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِالْمَالِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ وَالطَّالِبُ يَقُولُ: لَمْ أُبْرِئْ الْأَوَّلَ وَالْكَفِيلُ يَجْحَدُ الْكَفَالَةَ قَضَيْت لِلطَّالِبِ بِالْكَفَالَةِ وَأَبْرَأْت الْأَصِيلَ إذَا كَانَ هُوَ يَدَّعِي شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْبَرَاءَةِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ يَشْهَدَانِ عَلَى الطَّالِبِ لَا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِالْحَوَالَةِ وَقَالَ الطَّالِبُ: إنَّمَا كَفَلَ لِي فَهُوَ مَا أَكْذَبَهُمَا فِيمَا شَهِدَا لَهُ مِنْ ضَمَانِ الْمَالِ وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إلَى سَنَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ حَالَّةً وَادَّعَى الطَّالِبُ حَالَّةً وَجَحَدَ الْكَفِيلُ أَوْ أَقَرَّ وَادَّعَى الْأَجَلَ فَالْمَالُ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الطَّالِبَ لَمْ يُكَذِّبْ شَاهِدَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا أَكْذَبَهُ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ وَالشَّاهِدُ بِالْأَجَلِ لِلْكَفِيلِ وَاحِدٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُخَالِفُنَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ وَأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِكْذَابِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلَيْنِ كَفَالَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ بِهَا وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الطَّالِبَ يَأْخُذُ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ مُطَالَبٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَقَدْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمَا وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْآخَرِ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَمَّتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لِشَهَادَةِ الْأَوَّلَيْنِ وَفِي حَقِّ الْآخَرِ بِشَهَادَةِ الْآخَرِ أَخَذَ الْأَوَّلَيْنِ مَعَ الثَّالِثِ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ هُوَ وَفُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ وَشَهِدَ لَهُ الْآخَرَانِ عَلَى كَفِيلٍ الْآخَرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَمَّتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْتِزَامِهِ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْمَالِ حَالًّا عَلَى الْأَوَّلِ وَشَهِدَ لَهُ آخَرَانِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمَالِ إلَى أَجَلٍ عَلَى مِثْلِ شَهَادَةِ الْأَوَّلِ كَانَ جَائِزًا وَأَخَذَ الطَّالِبُ صَاحِبَ الْأَجَلِ بِالْمَالِ إلَى أَجَلِهِ وَالْآخَرَ بِالْمَالِ حَالًّا اعْتِبَارًا لِلثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ بِالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَ الْفَرِيقَانِ فِي مَبْلَغِ الْمَالِ أَخَذَ الطَّالِبُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ كَفَالَةَ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ رَجُلٍ وَقَالَا: رَأَيْنَاهُ وَلَمْ نَعْرِفْهُ، أَوْ لَمْ نَرَهُ وَلَكِنَّ الْكَفِيلَ أَشْهَدَنَا عَلَى ذَلِكَ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى إقْرَارِهِ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ مَعْلُومٌ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ دُونَ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إذَا جَحَدَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ حِينَ لَمْ يَعْرِفْهُ الشُّهُودُ أَوْ لَمْ يَرَوْهُ وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَحَالَ بِهَا فُلَانٌ الْغَائِبُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَأَدَّى إلَيْهِ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ؛ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُحِيلِ وَلَمْ يُكَلَّفْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ الْتَزَمَ بِالْحَوَالَةِ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى ذِمَّتِهِ مَا كَانَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ خَلَفًا عَنْ الْأَصِيلِ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الْمَالُ إلَى الْأَصِيلِ فَانْتَصَبَ هُوَ خَصْمًا عَنْهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْحَوَالَةِ بِالْأَمْرِ: الْقَضَاءُ بِالْمَالِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ غَائِبًا فَأَقَامَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْأَصِيلِ أَنَّهُ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَحَلْته بِهَا عَلَيَّ وَأَدَّيْتهَا إلَيْهِ؛ قَضَيْت بِهَا لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى الطَّالِبِ بِالِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ الْمَالَ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ وَلَا يَتَوَصَّلُ الْأَصِيلُ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ قَبْضِ الطَّالِبِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى جُحُودِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا حَضَرَ وَالْكَفَالَةُ فِي هَذَا قِيَاسُ الْحَوَالَةِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حَوَالَةٍ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَلَفَ؛ بَرِئَ وَرَجَعَ الْمُدَّعِي عَلَى صَاحِبِ الْأَصِيلِ بِالْمَالِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ مُطَالَبَةِ الطَّالِبِ عَنْ الْأَصِيلِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ إنَّمَا يَبْرَأُ إذَا ثَبَتَتْ الْحَوَالَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ حِينَ حَلَفَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ حِينَ جَحَدَ وَحَلَفَ؛ قَدْ تَحَقَّقَ التَّوَى وَذَلِكَ يُوجِبُ عَوْدَ الْمَالِ إلَى الْأَصِيلِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَأَدَّى الْمَالَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ إنْ كَانَ مُقِرًّا أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ. وَجُحُودُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْحَوَالَةَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا فِي ذَلِكَ حِينَ قَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ نُكُولَهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بَلْ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى هَذَا النُّكُولِ وَإِنَّمَا لَحِقَتْهُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْعَيْبِ فَرَدَّ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَلَوْ كَانَ قَضَى بِالْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ أَوْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَنَّ فُلَانًا أَمَرَهُ بِهِ فَأَدَّى الْمَالَ وَصَاحِب الْأَصْلِ جَاحِدٌ لِلْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ وَأَدَّاهُ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْأَصِيلَ بِاَللَّهِ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى النُّكُولِ إلَّا أَنَّ نُكُولَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ فِي الْأَمْرِ فَيُحَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَقَالَ الْكَفِيلُ: لَمْ أَكْفُلْ لَهُ بِشَيْءٍ وَقَدْ أَبْرَأَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى فَاسْتَحْلِفْهُ مَا أَبْرَأَنِي وَقَالَ الطَّالِبُ: بَلْ فَاسْتَحْلِفْهُ مَا كَفَلَ بِهِ لِي فَإِنِّي أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قِيَامُ الْكَفَالَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ فَيُحَلِّفُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ؛ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ وَلَمْ يُسْتَحْلَفْ الطَّالِبُ بِاَللَّهِ مَا أَبْرَأَهُ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْبَرَاءَةَ فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ كَفَالَتِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ، وَإِنْ ادَّعَى الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ أَنَّهُ دَفْعَهُ إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ؛ حَلَفَ الطَّالِبُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الدَّفْعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ كَفَالَةً فَقَالَ: أَخَذَك غُلَامِي حَتَّى كَفَلْت لِي بِفُلَانٍ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ لَهُ بِحَضْرَةِ غُلَامِهِ دُونَهُ فَإِنْ أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ لِرَجَاءِ النُّكُولِ. وَإِذَا طَلَبَ مُدَّعِي الْكَفَالَةِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَنْ يَحْلِفَ الْكَفِيلُ بِاَللَّهِ مَا كَفَلَ؛ لَمْ يَحْلِفْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَك هَذِهِ الْكَفَالَةَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْفُلُ لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَبْرَأُ مِنْ كَفَالَتِهِ بِسَبَبٍ فَلَوْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي مَا كَفَلَ يَضُرُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مُحِقًّا فِي إنْكَارِهِ الْكَفَالَةَ فِي الْحَالِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْخَصْمَيْنِ فَلِهَذَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَكَ هَذِهِ الْكَفَالَةَ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ دَيْنٍ وَمَالِ وَدِيعَةٍ وَعَارِيَّةٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ: مَا اشْتَرَيْتَ وَلَا اسْتَوْدَعَكَ وَلَا أَعَارَكَ وَلَا اسْتَأْجَرْتَ مِنْهُ وَلَكِنْ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ: مَا لَهُ قِبَلَكَ مَا ادَّعَى بِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَالَ: هَذَا إذَا عَرَّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا الْقَاضِي قَدْ يَكْفُلُ الْإِنْسَانُ ثُمَّ يَبْرَأُ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهَذَا التَّعْرِيضِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَفَلْت؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى جُحُودِهِ وَقَدْ جَحَدَ الْكَفَالَةَ أَصْلًا فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَرَّضَ فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُ فَعَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعَرِّضْ؛ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ فَلَا يَنْظُرُ الْقَاضِي لَهُ وَلَكِنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى جُحُودِهِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: هَذَا التَّعْرِيضُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ كُلُّ خَصْمٍ وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصُونَ قَضَاءَ نَفْسِهِ عَنْ الْجَوْرِ وَنَفْسَهُ عَنْ الظُّلْمِ فَيُحَلِّفَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا عَرَّضَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يُعَرِّضْ. وَلَوْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلْقَاضِي: حَلِّفْ الطَّالِبَ أَنَّ لَهُ قِبَلِي هَذِهِ الْكَفَالَةَ فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ فَإِذَا رَدَدْت الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي؛ فَقَدْ خَالَفْت الْأَثَرَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى. وَلَوْ جَاءَ الطَّالِبُ بِشَاهِدَيْهِ عَلَى قَوْلِهِ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ: اسْتَحْلِفْهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُهُ عَلَى حَقٍّ؛ لَمْ أَسْتَحْلِفْهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي. فَإِذَا جَعَلْت عَلَيْهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ يَمِينًا؛ فَقَدْ جَعَلَتْ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
|